الربيع العربي- فوضى خارجية، صمت غربي، وفتنة مستمرة

المؤلف: محمد مفتي11.25.2025
الربيع العربي- فوضى خارجية، صمت غربي، وفتنة مستمرة

عندما تفجرت ثورات ما يسمى بالربيع العربي، كانت هنالك دلائل قوية تشير إلى وجود قوى خارجية تدعم هذه الثورات وتغذيها بشكل خفي. هذا الدعم الخارجي تجلى بوضوح عندما قامت حكومات بعض الدول الغربية بتأييد الحراك الشعبي في بعض الدول العربية، بينما كانت تنتقد بشدة أي إجراء تتخذه حكومات تلك الدول لقمع المظاهرات والاحتجاجات. هذا التدخل الأجنبي ساهم في استمرار الفوضى والاضطرابات في تلك البلدان، خصوصًا بعد أن انتشر المتطرفون وعاد بعض المعارضين من الدول الغربية التي كانوا يقيمون فيها، ليصبوا المزيد من الزيت على النار المشتعلة، ويعمقوا الانقسام والتفرقة بين أبناء الشعب الواحد، مدعومين من قبل عدد من الدول الغربية الطامعة في المنطقة.

في ذلك الوقت، رفعت الدول الغربية شعاراً خادعاً يزعم دعمها للحرية والديمقراطية للشعوب العربية التي اجتاحتها الفوضى. ولكن، بعد مرور ما يزيد على عقد ونصف على تلك الاضطرابات، لا تزال الحروب الأهلية المدمرة تمزق بعض الدول العربية، وسط انقسام حاد وعميق بين أبناء الشعب الواحد، وفي ظل صمت غربي مطبق تجاه كل ما يحدث من صراعات ذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء. يبدو وكأن الدول الغربية، التي ساهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في إشعال فتيل تلك الثورات، كان هدفها الأساسي هو نشر الفوضى والخراب، ثم الانسحاب من المشهد برمته، تاركة الصراع والدمار يستمر بلا هوادة.

أين هي الدول الغربية، وأين ذهبت إنسانيتها المزعومة، مما يحدث من صراعات تسببت في هروب الملايين من أبناء الشعوب العربية من بلادهم إلى الدول المجاورة وغيرها؟ لقد لقي الآلاف منهم حتفهم غرقاً عندما كانت تحملهم قوارب الموت للنجاة والهروب إلى الدول الغربية، التي أغلقت أبوابها ورفضت استقبالهم حتى لا تتحمل أعباءهم. والعديد منهم قضوا نحبهم خلال رحلة نزوحهم عبر دروب الصحراء القاحلة بصحبة عائلاتهم، نتيجة الجوع والعطش وتفشي الأمراض.

البعض ممن حالفهم الحظ وتمكنوا من الوصول إلى بعض الدول الغربية وجدوا استقبالاً فاتراً، إن لم يكن عدائياً، وسط تهديدات مستمرة بترحيلهم إلى دول أفريقية مثل رواندا. وقبل فترة وجيزة، أعلنت حكومة حزب العمال في المملكة المتحدة عن خطة لترحيل من أسمتهم "المهاجرين غير الشرعيين" إلى فيتنام وتيمور الشرقية. وفي غضون سنوات قليلة، سيجد بعض مواطني الدول العربية التي دمرتها الحروب الأهلية أنفسهم مشتتين في دول عديدة حول العالم، غالبيتها دول فقيرة تعاني شعوبها أصلاً من الفقر المدقع والحاجة والبطالة.

وخلال تلك الحقبة المأساوية –ولا يزال الوضع كذلك-، كان المحرضون في الخارج، وعبر العديد من القنوات الإعلامية المشبوهة ووسائل التواصل الاجتماعي، ينشرون سمومهم بهدف تأليب الرأي العام العربي على حكامه. أتذكر جيداً خلال مشاهدتي لإحدى القنوات الفضائية في تلك الفترة كيف كان العديد منهم يحثون الشعوب على القيام بالمظاهرات والانتفاضة ضد حكامهم، بينما هم أنفسهم ينعمون بالعيش الرغيد في بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، بعد أن حصلوا على جنسيات تلك الدول ثمناً لخيانة أوطانهم. والعديد من هؤلاء يتلقى دعماً سخياً من بعض الأطراف المشبوهة للظهور على القنوات الفضائية وعقد الندوات والمؤتمرات الوهمية. من الصعب تصديق أن تكاليف هذه الحملات التحريضية الباهظة يدفعها هؤلاء المنشقون من أموالهم الخاصة.

أذكر قبل موسم الحج الأخير، وبعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية عن ضرورة حصول كل من يرغب في أداء فريضة الحج على تصريح مسبق (بهدف تأمين سكن الحجاج ونقلهم وإعاشتهم وفق منظومة متكاملة تضمن لهم الحصول على خدمات عالية الجودة)، سارع هؤلاء المحرضون إلى إصدار فتاوى ضالة بأن الحصول على تصريح الحج ليس ضرورياً، مطالبين الحجاج -حتى أولئك الذين قدموا إلى المملكة بتأشيرات سياحية- بالذهاب إلى مكة المكرمة عبر أي طريق يجدونه مناسباً، محرضين علناً على مخالفة تعليمات الدولة وسيادة القانون.

ولكن، بعد أن لقي البعض حتفهم في طرق وعرة وغير مخصصة للنقل، وفي وسط درجات حرارة تجاوزت الخمسين درجة مئوية، سارع هؤلاء إلى انتقاد الجهات المعنية في الدولة، مدعين أنها هي السبب في ما حدث، ناسين -أو متناسين بالأصح- أنهم هم من حرضوا على مخالفة تعليمات ولي الأمر. هذه الحادثة المأساوية هي مثال صارخ على ما يقوم به هؤلاء من تحريض على الفتنة والفرقة، ثم التبرؤ من نتائجها الوخيمة وإلقاء تبعاتها على الآخرين.

لقد ازداد نشاط الكثير من هؤلاء بشكل ملحوظ، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر، حيث ألقوا باللوم على الأنظمة العربية، وعلى الأخص دول الخليج، وكأنها هي السبب في اندلاعها. وفي الوقت الذي يتطلب الأمر فيه إعمال الحكمة والتبصر والدبلوماسية لاحتواء حرب إقليمية محتملة، نجد هؤلاء يحرضون الرأي العام العربي للانتفاضة على حكامه. لا أعلم ماذا قدم هؤلاء للقضية الفلسطينية على مر التاريخ، فاتهاماتهم الجاهزة والمعلبة لا تتطلب سوى كتابة بعض السطور عبر منصات التواصل الاجتماعي أو الظهور في إحدى القنوات المشبوهة، وتلقي مقابل مادي مجزٍ من بعض الدول المعادية لتوجيه السباب والشتائم والافتراءات الباطلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة